كبشة بنت رافع الأنصارية
الصادقة الصابرة المحتسبة
صاحبة هذه السيرة العطرة، واحدة من المسلمات المجاهدات اللاتي حظين بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورافقن الرسالة النبوية الشريفة، منذ أشرقت أنوارها في المدينة المنورة، ففي ثنايا بيتها فاحت روائح الطيب في "طيبة" الطيبة فانتشر فيها الإسلام، فكانت خيرًا وبركة على أرجاء المعمورة.
نعم... ففي هذا الجو الإيماني العظيم، وفي ظل التقوى نشأت هذه الصحابية الجليلة، ونهلت من معين الإسلام الصافي النقي، فأعطت الكثير الكثير، فكانت أمًا لشهيدين عظيمين، وبطلين مباركين من أبطال الإسلام. فهي أم حارس رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وحامل راية الأنصار أيضًا، وواحد من مجلس شورى النبي صلى الله عليه وسلم يومذاك. وابنها هذا هو الصديق الثاني بعد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وخليفة رسول الله على المدينة في غزوة بواط... إنها أم الأبطال... أم سعد بن معاذ كبشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد الأنصارية الخدرية، واحدة من النساء الفاضلات اللاتي قدمن الخير في جميع المجالات، وهي واحدة ممن شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، ودعا لها بالخير والأجر العظيم.
كانت كبشة قد تزوجت معاذ بن النعمان الأشهلي فولدت له سعد بن معاذ وعمرًا وإياسًا وأوسًا وعقرب وأم حزام بني معاذ بن النعمان.
في سجل الأوائل
أسلمت كبشة وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لها كبير الأثر في تاريخ الإسلام. فها هي المدينة تستضيف شابًا وسيمًا من مكة هو مصعب بن عمير رضي الله عنه، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعلّم أهلها القرءان، ويفقههم في أمور الدين. وهكذا بدأ الإسلام ينتشر في دور الأنصار حتى وصلت الدعوة إلى دار بني عبد الأشهل، فأسلم سيد الأوس أسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ الذي وقف أمام قومه بني عبد الأشهل، وقال لهم: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام – أي أمنع نفسي من ذلك- حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
وسارعت أم سعد إلى إعلان إسلامها، وسعدت بنعمة الإيمان سعادة عظيمة، بل ازدادت سعادتها عندما أضحت دارها وقرًا ومكانًا لسفير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها انبعثت نسمات الإيمان تعطر أرجاء المدينة والدنيا كلها.
وذكر ابن الحوزي رحمه الله في "صفة الصفوة"، أنّ أول دار أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، فأكرم بها من دار.
وذكر ابن حجر رحمه الله في "الإصابة" فقال: أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت رافع بم عبيد، وأم عامر بنت يزيد بن السّكن، وليلى بنت الخطيم. وكم كان سرور أن سعد عظيمًا حينما ترامى إلى سمعها قول النبي صلى الله عليه وسلم يذكر دارها ودور الأنصار بخير، فقال: " خير دور الأنصار بنو النّجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير".
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أنّ أختي كبشة قد أسلمتا وبايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما: الفريعة أو الفارعة بنت رافع، وسعاد بنت رافع وهي أم أسعد بن زرارة أحد النقباء الأخيار، وهو ابن خالة سعد بن معاذ رضي الله عنهم جميعًا.
أم الشهيدين
سجّل التاريخ لأم سعد صفات وفضائل كريمة، ومواقف إيمانية تشير إلى مكانة النبي العظيم في نفسها، وتقديم الابناء شهداء في سبيل الله سبحانه وتعالى.
ففي غزوة بدر خرج ولداها سعد بن معاذ، وأخوه عمرو بن معاذ رضي الله عنهما وجاهدا في سبيل الله، وأبلى كل واحد منهما بلاءً حسنًا، وعادا مع المسلمين إلى المدينة يحملون بشائر النصر، ففرحت الأم المؤمنة بنصر الله.
وأما في غزوة أحد فقد خرجت أم سعد رضي الله عنها مع من خرج من النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وردت الأخبار إلى المدينة باستشهاد عدد من المسلمين، وكان من بين الشهداء ابنها عمرو بن معاذ رضي الله عنه.
ولكن هذه الصحابية الجليلة كانت ترجو سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلت بسرعة نحو أرض المعركة، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا، حمدت الله، وقالت: "أما إذا رأيتك سالمًا فقد أشوتِ [أي هانت] المصيبة. فعزَّاها النبي صلى الله عليه وسلم بابنها عمرو.
شهادة صدق
في إحدى الساعات الحرجة التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وعلى وجه التحديد في غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب، حظيت أم سعد بشهادة الصدق مختومة بختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان ابنها سعد يرتدي درعًا قصيرة قد ظهرت منها ذراعه، فمرّ من أمام حصن بني حارثة، وكان فيه النساء والأطفال، ومن بينهم عائشة أم المؤمنين، وأمه كبشة رضي الله عنهما، فقالت له أمه تستعجله: الْْحَقْ برسول الله يا بني فقد – والله- تأخرت. وقد أرادت رضي الله عنها أن لا تفوته لحظة دون أن يحظى بمعية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت السيدة عائشة: والله يا أم سعد لوددتُ أن درع سعد أطول على يده مما هي، فقالت أم سعد: يقضي الله ما هو قاض.
فقضى الله أمرًا كان مفعولاً، وأصيب سعد بسهم قطع منه الأكحل، وهو عِرق في الذراع يُسمى عرق الحياة، رماه به حبان بن العرقة.
وتوجه سيدنا سعد بالدعاء إلى الله قائلاً: "اللهم إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبّ إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم ءاذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
فاستجاب الله له فالتحم جرحه، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، ونقض يهود بني قريظة العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعندها نزلوا على حُكم سعد بن معاذ، وذلك عندما كلّفه بذلك النبي نزولاً عند رغبتهم. فحكم عليهم بأن تُقتل رجالهم وتُسبى نساؤهم وذراريهم، ولما نُفّذ حكم سعد فيهم انفتق جرحه فمات شهيدًا.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سعد: "اهتزَّ عرش الرحمن عزّ وجلّ لموت سعد بن معاذ". والمعنى: انتعش العرش وحاملوه فرحًا بقدوم روحه رضي الله عنه، وفي هذا دليل علوّ مقامه ورفيع مكانته، لأن العرب تنسب الشيء العظيم لأعظم الأشياء، فتقول: أظلمت الأرض لموت فلان، واهتزت له الجبال. واحتسبت أم سعد ابنها الثاني شهيدًا عنه الله، لعلمها بمكانة الشهيد وللبشرى التي بشرها بها النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
بشارتها بالجنة
قال الله تعالى: {الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون} [سورة العنكبوت ءاية 59].
هذه الصحابية الفاضلة ضربت أروع ءايات الصبر والتوكل في تاريخ النساء، وكانت تحث على مرضاة ربها، ومرضاة نبيه، وتؤثر محبة رسول الله على كل غال ونفيس من مال وولد، لقد صبرت عندما استشهد ولدها عمرو وأخوه سعد – رضي الله عنهما- وفي السنة إشارات كثيرة ودلائل واضحة تبشر بالجنة لمن صبر ابتغاء مرضاة الله. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من احتسب ثلاثة من صُلبه دخل الجنة"، فقامت امرأة فقالت: أو اثنان؟ فقال: "أو اثنان" فقالت: يا ليتني قلت واحدة.
وبعد فهذه نفحات ندية من سيرة صحابية جليلة، فقد صبرت ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ فرضي الله عنها وأرضاها لأنها ضربت الأمثلة في الصبر والوفاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ام عطية الانصاري
هي نسيبة بنت الحارث الأنصارية والتي تكنى ب “أم عطية”، وقد قامت بالكثير من الأعمال العظيمة من أجل خدمة الاسلام والمسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم، واشتهرت بعلمها وحكمتها ورجاحة عقلها، وكان لها العديد من المواقف المشهودة في تاريخ الاسلام.
وتعد تلك الصحابية من كبريات نساء الصحابة، ويكاد يذكر التاريخ معلومات بسيطة عنها، غير ان تلك المعلومات تظهر الأثر الكبير لها، والدور الذي كانت تقوم به سواء في مجال الجهاد والمشاركة في المعارك العسكرية او في مجال العلم كراوية للحديث او الفقه في شرح العديد من المسائل المتعلقة بالنساء كما سمعتها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتروي كتب السيرة أن أم عطية الانصارية او نسيبة بنت الحارث، اسلمت مع السابقات من نساء الأنصار، وفي ساحات الوغى وتحت ظلال السيوف، كانت - رضي الله عنها - تسير في ركب الجيش الغازي، تروي ظمأ المجاهدين وتأسو جراحهم، وتعد طعامهم، واشتهرت بتغسيل الموتى في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
جهاد مع الرسول
وعن سيرة جهادها مع الرسول صلى الله عليه وسلم تقول الصحابية الجليلة أم عطية الانصارية (نسيبة بنت الحارث): “غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فكنت أصنع لهم طعاما، وأخلفهم في رحالهم، وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى”. ونفهم من ذلك أنه كان لهذه الصحابية دور كبير ومؤثر في المعارك العسكرية التي خاضها المسلمون ضد الكفر والمشركين وأهل الضلال، حيث إن أم عطية كانت تشارك في الجهاد، وكانت تقوم بأعمال التمريض واعداد الطعام للجنود، ولم تكتف بذلك بل كانت تقوم بدور الحارس الأمين على امتعة الجيش. ولم يتوقف دور تلك الصحابية الجليلة عند هذا الحد، بل انها كانت تقوم بتطبيب الجرحى وأيضا كانت تسهر على المرضى وتقوم بخدمتهم، ولا شك أن تلك الخدمات مهمة وجليلة في ميدان المعركة ولا يمكن الاستغناء عنها. وفي غزوة خيبر كانت أم عطية رضي الله عنها، من بين عشرين امرأة خرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتغين أجر الجهاد.
وكانت أم عطية شجاعة وقوية ومؤمنة ولديها القدرة على الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الاسلام. وكانت مستعدة للتضحية بنفسها من أجل انتشار الدين الاسلامي في انحاء العالم كافة.
فهذه المرأة عرفت مبكرا حلاوة الاسلام والايمان، وقيمة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ورسوله، وكانت دائما مستعدة لتلبية نداء الحق من أجل الشهادة والفوز بالجنة. ولقد ضربت بكفاحها وجهادها وعملها وعلمها وفقهها وبلاغتها ابرز الامثال على أن الاسلام ارتقى بالمرأة وميزها ووضعها في شتى المجالات جنبا الى جنب مع الرجل.
40 حديثاً
وأم عطية هي التي غسلت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما ماتت زينب زوجة أبي العاص بن الربيع قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية الانصارية ومن معها: “غسلنها وترا ثلاثا أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك واغسلنها بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا -أو شيئا من كافور - وإذا فرغتن فآذنني”.
تقول نسيبة بنت الحارث: فآذناه، فألقى إلينا حقوه “إزاره”، وقال عليه الصلاة والسلام: “أشعرنها هذا”، وتقول أم عطية الانصارية: فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث، قرنيها وناصيتها، وألقينا خلفها مقدمتها.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على عائشة فقال: “هل عندك من شيء؟” قالت عائشة رضي الله عنها: لا، الا شيء بعثت به الينا نسيبة “أم عطية الانصارية” من الشاة التي بعثت اليها من الصدقة. قال النبي عليه الصلاة والسلام: “انها قد بلغت محلها”.
وكانت أم عطية تغسل من مات من النساء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، طلبا للمثوبة والاجر من الله عز وجل. وقد كانت الصحابية الجليلة رضي الله عنها فقيهة حافظة، ولها أربعون حديثا، منها في الصحيحين ستة، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديث.
وقد أخرج أحاديثها أصحاب السنن الأربعة وروى عنها أنس بن مالك - رضي الله عنه - من الصحابة وروى عنها من التابعين محمد بن سيرين، وأخته حفصة بنت سيرين، وأم شراحبيل وعلي بن الأقمر، وعبدالملك بن عمير، وإسماعيل بن عبدالرحمن. ومن الأحاديث التي روتها ام عطية الأنصارية عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثها في غسل آنية النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور”. وحديث “كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الظهر شيئا”. وحديث “نهينا عن اتباع الجنائز”.
وعاشت الصحابية الجليلة أم عطية الانصارية (نسيبة بنت الحارث) الى حدود سنة سبعين من الهجرة، وقد انتقلت رضي الله عنها في آخر عمرها الى البصرة، واستفاد الناس من علمها وفقهها، فكان جماعة من الصحابة والتابعين يأخذون عنها غسل الميت. فرضي الله عن الصحابية الجليلة أم عطية الانصارية وعن المسلمين أجمعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
أم عمارة...
نسيبة بنت كعب.. الصحابية المجاهدة
والمقاتلة الشجاعة
.
واحدة من الصحابيات الجليلات اللواتي اتخذن قدوة حسنة وأسوة صالحة، وممن يُضرب بهن المثل في التضحية والإيثار.
والحديث عن هذه الصحابية مؤثر، وشائق وجميل، يسر النفوس والعقول. فلو ذكرنا الزوجات الوفيات كانت هي في المقدمة، وإن تحدثنا عن السبق إلى الإيمان كانت من الأوائل وإن عدَّدت المجاهدات اللواتي دافعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تحدثت عن أهل العبادة والطاعة لله عز وجل وجدتها عابدة قانتة.
وإذا سألت عن العلم والحديث النبوي وجدتها راوية متقنة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأية امرأة هذه التي حازت كل خصال الشرف؟...
لا شك عزيزي القارئ أنك بشوق لمعرفة هذه الصحابية الفاضلة... فقد وصفها الإمام أبو نُعيم الاصبهاني في "حلية الأولياء" فقال: "أم عمارة المبايعة بالعقبة، كانت ذات جد واجتهاد، وصوم ونسك واعتماد". وترجم لها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" بقوله: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول... الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية.
إذن فهذه الصحابية من الأنصار الذين وصفهم الله في القرءان بقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. وهي من بني النجار الكرام أخوال النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزل في ديارهم في المدينة المنورة عند هجرته الشريفة.
أهل بيتها
نشأت أم عمارة نسيبة بنت كعب في أسرة عُرفت بالمكارم وممن أسهمت في خدمة الإسلام والمسلمين. فأخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكّائين السبعة. ويحلو لنا ذكر هؤلاء الصحابة في هذا المقام وسبب تسميتهم بالبكائين وهم: عُلبة بن زيد، وعبد الرحمن بن كعب أبو ليلى، وسالم بن عمير، وعمرو بن الحُمام، وعبد الله بن المغفل المزني وهرميّ بن عبد الله، والعرباض بن سارية رضي الله عنهم، فقد جاءوا إلى النبي في غزوة تبوك، وطلبوا منه رواحل ليركبوا عليها ليجاهدوا معه في سبيل الله، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا، فسموا البكائين، وفيهم نزل قوله تعالى: {ولا على الذين أتوْك لتحملهم قلتَ لا أجدُ ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون} [سورة التوبة ءاية 92] أي أن الله رفع الإثم عنهم لعدم وجود القدرة لخروجهم. أما زوجها زيد بن عاصم بن عمرو المازني النجاري فهو من السابقين إلى الإسلام، وولداها حبيب وعبد الله ابنا زيد صحبا النبي صلى الله عليه وسلم ثم تزوجت غزيّة بن عمرو بن عطية المازني النجاري، فولدت له تميمًا وخوله، فأكرمهم الله بالهداية والإخلاص لله ورسوله.
الصابرة أم الشهيد
وهذه الصحابية احتلت مكانًا عليًا في مقام الصبر، فقد قُتل ابنها حبيب فاحتسبته صابرة عند الله سبحانه وتعالى.
فقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في قومه بني حنيفة في اليمامة. فكان يسأله مسيلمة أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال حبيب: نعم، وإذا سأله: تشهد أني رسول الله؟ قال: أنا لا أسمع، ففعل ذلك مرارًا، فقطّعه مسيلمة عضوًا عضوًا، ومات شهيدًا رضي الله عنه، ورثاه مالك بن عمرو الثقفي بأبيات منها:
مضى صاحبي قبلي وخُلّفتُ بعده ****** فكيف بأعضائي البقيةِ أصنعُ
وقال له الكذابُ تشهد أنني ****** رسولٌ فأوما أنني لستُ أسمعُ
فقال أتشهد أنها لمحمدٍ ****** فنادى بدعوى الحقّ لا يتتعتع
فضرّب أمَّ الرأس فيه بسيفه ****** غويٌّ – لحاه الله- بالفتكِ مولَعُ
وأما ابنها الآخر عبد الله بن زيد، الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهد أحدًا وقُتل يوم الحرّة، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب بسيفه.
بيعة العقبة
قال الذهبي: أم عمارة الفاضلة المجاهدة، شهدت ليلة العقبة وشهدت أحدًا والحديبية ويوم حنين، ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل. وتحدثنا أم عمارة عن صفة بيعتها فتقول: كانت الرجال تصفق على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، والعباس – عمّ النبي- ءاخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بقيتُ أنا وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي السلمية نادى زوجي غزية بن عمرو: يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا معنا يبايعناك فقال: "قد بايعتهما على ما بايعتكم عليه، إني لا أصافح النساء" رواه الإمام مالك في "الموطأ" في كتاب "البيعة" والإمام أحمد في "المسند".
جهادها في سبيل الله
لأم عمارة رضوان الله عليها بطولات نادرة ومواقف رائعة في غزوة أحد، وكل موقف يفيض حبًا ووفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد خرجت أم عمارة وولداها عبد الله وحبيبٌ وزوجها يجاهدون في سبيل الله، فكانت هي تسقي العطشى وتضمّد الجرحى. وكانت غرّة الحرب وطلعتها للمسلمين، ولكنه لما بدأ وجع المعركة يتبدل، وانكشف المسلمون هنالك جاء دور أم عمارة، فانتضت سيفها، وأخذت ترسًا، وراحت تدافع عن النبي مع زوجها وأولادها، فكانت إذا رأت الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرع لإزالته وإبعاده حتى قال عنها صلى الله عليه وسلم: "ما التفتُ يمينًا ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني". وأثناء المعركة جُرح ابنها عبد الله جرحًا بليغًا، فربطت أم عمارة جراحه، ثم قالت له: انهض بنيّ فضارب القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يطيق ما تطيقين يا عمارة؟" ثم أقبل الذي جرح ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا ضارب ابنك" فاعترضته، وضربت على ساقه فوقع، ثم أجهزت أم عمارة ومن معها على الرجل المشرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي ظفّرك وأقر عينك من عدوك".
رفقاء الجنة
وفي أُحد جُرحت أم عمارة رضي الله عنها بضعة عشر جرحًا، كان أكبرها جرحًا عميقًا في عاتقها أصابها به ابن قميئة، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جرحها، وأمر ابنها عبد الله أن يعصبه، وقال: "بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله من أهل بيت". وسمعته أم عمارة فقالت: ادعُ الله أن نرافقك في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة" فقالت أم عمارة رضي الله عنها: "ما أبالي ما أصابني من الدنيا".
إن المرء ليدهش ويُسر في ءان واحد لشجاعة هذه المرأة النادرة التي قلَّ أن نجد مثيلاً لها في تاريخ النساء.
وتمضي الأيام، ويخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم لغزو يهود خيبر الذين نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج معه من المدينة عشرون امرأة، منهم أم المؤمنين أم سلمة، وأم عمارة وعدد ءاخر من نساء المهاجرين والأنصار، وفتحت خيبر، وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام النساء المجاهدات بعض الغنائم، فكانت حصة أم عمارة من المغانم خرزًا حمرًا كانت تلبسها في رقبتها، وبعض الملابس ودينارين. كما شاركت أم عمارة في غزوة حُنين، وكانت هذه خاتمة غزواتها مع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن حُبّ الجهاد ظلّ يسري في عروقها، ونرى جانبًا منه يوم اليمامة.
في رحاب القرءان والحديث
ذكر أصحاب السير أن أم عمارة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يُذكرن بشيء"، فنزلت هذه الآية: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعدَّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا} [سورة الأحزاب ءاية 35].
كما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنها حفيدها عبّاد بن تميم، والحارث بن عبد الله بن كعب، وعكرمة مولى ابن عباس، ومن مروايتها ما أخرجه لها أبو نعيم في "الحلية" والترمذي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعت له بطعام فدعاها لتأكل فقالت: إني صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الصائم إذا أُكِلَ عنده صلّت عليه الملائكة حتى يفرغوا.
بطلة اليمامة
استأذنت أم عمارة رضي الله عنها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخروج مع جيش المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب، فأذن لها بعد أن أوصى قائد الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه بها، وكان عمرها ءانذاك قد زاد عن الستين، ولكن لم تضعف عزيمتها، وفي المعركة جُرحت أحد عشر جرحًا، وقُطعت يدها، ولكنها لم تكترث لما أصابها، وبقيت تجاهد في سبيل الله حتى قال ابنها عبد الله مسيلمة الكذاب... فسجدت لله شكرًا أن خلّصهم من مسيلمة وكفره وكذبه، وعلى انتهاء هذه الفتنة العظيمة.
ظلت أم عمارة رضي الله عنها تحظى بالمكانة اللائقة في حياة الخلفاء الراشدين، فكان أبو بكر رضي الله عنه يأتيها ويسأل عنها، وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه عرف مكانتها وتشير الدلائل إلى أن وفاة أم عمارة رضي الله عنها كانت في مطلع خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثالثة عشرة للهجرة، بعد أن عاشت حياةً معطاءة حافلة بالتضحيات لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ونحن لن نستطيع في هذه العجالة أن نوفي لهذه المرأة مكانتها، ولله درّ أبي نُعيم صاحب "الحلية" إذ وصفها بقوله: "أم عمارة المبايعة بالعقبة، المحاربة عن الرجال والشيبة، كانت ذات جدّ واجتهاد، وصوم ونُسك واعتماد".
نسأل الله أن يجمعنا بها في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.